فصل: بيان أقسام العباد في دوام التوبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان أقسام العباد في دوام التوبة

اعلم أن التائبين في التوبة على أربع طبقات‏:‏ الطبقة الأولى أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعود إلا الزلات التي لا ينفك البشر عنها في العادات مهما لم يكن في رتبة النبوة فهذا هو الاستقامة على التوبة وصاحبه هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات واسم هذه التوبة‏:‏ التوبة النصوح‏.‏

واسم هذه النفس الساكنة‏:‏ النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ سبق المفردون المستهترون بذكر الله تعالى وضع الذكر عنهم أوزارهم فوردوا القيامة خفافاً ‏"‏ فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم‏.‏

وأهل هذه الطبقة على رتب من حيث النزوع إلى الشهوات‏.‏

فمن تائب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة ففتر نزاعها ولم يشغله عن السلوك صرعها وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه ملي بمجاهدتها وردها‏.‏

ثم تتفاوت درجات النزاع أيضاً بالكثرة والقلة وباختلاف المدة وباختلاف الأنواع‏.‏

وكذلك يختلفون من حيث طول العمر فمن مختطف يموت قريباً من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة‏.‏

ومن ممهل طال جهاده وصبره وتمادت استقامته وكثرت حسناته‏.‏

وحال هذا أعلى وأفضل إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة حتى قال بعض العلماء‏:‏ إنما يكفر الذنب الذي ارتكبه العاصي أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة ثم يصبر عنه ويكسر شهوته خوفاً من الله تعالى واشتراط هذا بعيد وإن كان لا ينكر عظم أثره لو فرض‏.‏

ولكن لا ينبغي للمريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج الشهوة وتحضر الأسباب حتى يتمكن ثم يطمع في الانكفاف فإنه لا يؤمن خروج عنان الشهوة عن اختياره فيقدم على المعصية وينقص توبته‏.‏

بل طريقها الفرار من ابتداء أسبابه الميسرة له حتى يسد طرقها على نفسه ويسعى مع ذلك في كسر شهوته بما يقدر عليه فبه تسلم توبته في الابتداء‏.‏

الطبقة الثانية تائب سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وترك كبائر الفواحش كلها إلا أنه ليس ينفك عن ذنوبه تعتريه لا عن عمد وتجريد قصد ولكن يبتلى بها في مجاري أحواله من غير أن يقدم عزماً على الإقدام عليها ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التي تعرضه لها‏.‏

وهذه النفس جديرة بأن تكون هي النفس اللوامة إذ تلوم صاحبها على ما تستهدف له من الأحوال الذميمة لا عن تصميم عزم وتخمين رأي وقصد وهذه أيضاً رتبة عالية وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى وهي أغلب أحوال للتائبين لأن الشر معجون بطينة الآدمي قلما ينفك عنه وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفة الحسنات فأما أن تخلو بالكلية كفة السيئات فذلك في غاية البعد‏.‏

وهؤلاء لهم حسن الوعد من الله تعالى إذ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللهم إن ربك واسع المغفرة ‏"‏ فكل إلمام يقع بصغيرة لا عن توطين نفسه عليه فهو جدير بأن يكون من اللمم المعفو عنه‏.‏

قال تعالى‏:‏ ‏"‏ والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله

فاستغفروا لذنوبهم ‏"‏ فأثنى عليهم مع ظلمهم لأنفسهم لتندمهم ولومهم أنفسهم عليه وإلى مثل هذه الرتبة الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه علي كرم الله وجهه‏:‏ ‏"‏ خياركم كل مفتن تواب ‏"‏ وفي خبر آخر‏:‏ ‏"‏ المؤمن كالسنبلة يفيء أحياناً ويميل أحياناً ‏"‏ وفي الخبر‏:‏ ‏"‏ لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفينة بعد الفينة ‏"‏ أي الحين بعد الحين فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينقض التوبة ولا يلحق صاحبها بدرجة المصرين‏.‏

ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين كالطبيب الذي يؤيس الصحيح عن دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه والأطعمة الحارة مرة بعد أخرى من غير مداومة واستمرار وكالفقيه الذي يؤيس المتفقه عن نيل درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار والتعليق في أوقات نادرة غير متطاولة ولا كثيرة وذلك يدل على نقصان الطبيب والفقيه‏.‏

بل الفقيه في الدين هو الذي لا يؤيس الخلق عن درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون المستغفرون ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا ويدرؤون بالحسنة السيئة ‏"‏ فما وصفهم بعدم السيئة أصلاً‏.‏

الطبقة الثالثة أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة ثم تغلبه الشهوات في بعض الذنوب فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لعجزه عن قهر الشهوة إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها هذا أمنيته في حال قضاء الشهوة عند الفراغ يتندم ويقول ليتني لم أفعله وسأتوب عنه وأجاهد نفسي في قهرها لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ويوماً بعد يوم فهذه النفس هي التي تسمى النفس المسولة وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم‏:‏ ‏"‏ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر شيئاً ‏"‏ فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه مرجو فعسى الله أن يتوب عليه وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره فربما يختطف قبل التوبة ويقع أمره في المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما سبق عليه من القول في الأزل لأنه مهما تعذر على المتفقه مثلاً الاحتراز عن شواغل التعلم دل تعذره على أنه سبق له في الأزل أن يكون من الجاهلين فيضعف الرجاء في حقه وإذا يسرت له أسباب المواظبة على التحصيل دل على أنه سبق له في الأزل أن يكون من جملة العالمين‏.‏

فكذلك ارتباط سعادات الآخرة ودركاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير مسبب الأسباب كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية وارتباط حصول فقه النفس الذي به تستحق المناصب العليا في الدنيا بترك الكسل والمواظبة على تفقيه النفس فكما لا يصلح لمنصب الرياسة والقضاء والتقدم العلم إلا نفس صارت فقهية بطول التفقيه فلا يصلح لملك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهراً بطول التزكية والتطهير هكذا سبق في الأزل بتدبير رب الأرباب‏.‏

ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ‏"‏ فمهما وقع العبد في ذنب فصار الذنب نقداً والتوبة نسيئة كان هذا من علامات الخذلان‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة حتى يقول الناس إنه من أهلها ولا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ‏"‏ فإذن الخوف من الخاتمة قبل التوبة وكل نفس فهو خاتمة ما قبله إذ يمكن أن يكون الموت متصلاً به فليراقب الأنفاس وإلا وقع في المحذور ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسر‏.‏

الطبقة الرابعة أن يتوب ويجري مدة على الاستقامة ثم يعود إلى مقارفة الذنب أو الذنوب من غير أن يحدث نفسه بالتوبة ومن غير أن يتأسف على فعله بل ينهمك انهماك الغافل في إتباع شهواته فهذا من جملة المصرين وهذه النفس هي‏:‏ النفس الأمارة بالسوء الفرارة من الخير ويخاف على هذا سوء الخاتمة وأمره في مشيئة الله فإن ختم بالسوء شقي شقاوة لا آخر لها وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا تطلع عليه كما لا يستحل أن يدخل الإنسان خراباً ليجد كنزاً فيتفق أن يجده وأن يجلس في البيت ليجعله الله عالماً بالعلوم من غير تعلم كما كان الأنبياء صلوات الله عليهم‏.‏

فطلب المغفرة بالطاعات كطلب العلم بالجهد والتكرار وطلب المال بالتجارة وركوب البحار وطلبها بمجرد الرجاء مع خراب الأعمال كطلب الكنوز في المواضع الخربة وطلب العلوم من تعليم الملائكة وليت من اجتهد تعلم وليت من اتجر استغنى وليت من صام وصلى غفر له فالناس كلهم محرومون إلا العالمون والعالمون كلهم محرومون إلا العاملون والعاملون كلهم محرومون إلا المخلصون والمخلصون على خطر عظيم‏.‏

وكما أن من خرب بيته وضيع ماله وترك نفسه وعياله جياعاً يزعم أنه ينتظر فضل الله بأن يرزقه كنزاً يجده تحت الأرض في بيته الخرب يعد عنه ذوي البصائر من الحمقى والمغرورين - وإن كان ما ينتظره غير مستحيل في قدرة الله تعالى وفضله - فكذلك من ينتظر المغفرة من فضل الله تعالى وهو مقصر عن الطاعة مصر على الذنوب غير سالك سبيل المغفرة يمد عند أرباب القلوب من المعتوهين‏.‏

والعجب من عقل هذا المعتوه وترويجه حماقته في صيغة حسنة إذ يقول‏:‏ إن الله كريم وجنته ليست تضيق على مثلي ومعصيتي ليست تضره ثم تراه يركب البحار ويقتحم الوعار في طلب الدينار وإذا قيل له إن الله كريم ودنانير خزائنه ليست تقصر على فقرك وكسلك بترك التجارة ليس يضرك فاجلس في بيتك فعساه يرزقك من حيث لا تحتسب فيستحمق قائل هذا الكلام ويستهزئ به ويقول‏:‏ ما هذا الهوس‏!‏ السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة وإنما ينال ذلك بالكسب هكذا قدره مسبب الأسباب وأجرى به سنته ولا تبديل لسنة الله ولا يعلم المغرور أن رب الآخرة ورب الدنيا واحد وأن سنته لا تبديل لها فيهما جميعاً وأنه قد أخبر إذ قال‏:‏ ‏"‏ وان ليس للإنسان إلا ما سعى ‏"‏ فكيف يعتقد أنه كريم في الآخرة وليس بكريم في الدنيا وكيف يقول ليس مقتضى الكرم الفتور عن كسب المال ومقتضاه الفتور عن العمل لذلك المقيم والنعيم الدائم وأن ذلك بحكم الكرم يعطيه من غير جهد في الآخرة وهذا يمنعه مع شدة الاجتهاد في غالب الأمر في الدنيا وينسى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وفي السماء رزقكم وما توعدون ‏"‏ فنعوذ بالله من العمى والضلال فما هذا إلا انتكاس على أم الرأس وانغماس في ظلمات الجهل وصاحب هذا جدير بأن يكون داخلاً تحت قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولو ترى إذ المجرمون ناكسو رؤوسهم عن ربهم ربنا أبصرنا وسمعنا فأرجعنا نعمل صالحاً ‏"‏ أي أبصرنا أنك صدقت إذ قلت‏:‏ ‏"‏ وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ‏"‏ فأرجعنا نسعى وعند ذلك لا يمكن من الانقلاب ويحق عليه العذاب فنعوذ بالله من دواعي الجهل والشك والارتياب السائق بالضرورة إلى سوء المنقلب والمآب‏.‏

إن جرى عليه ذنب إما عن قصد وشهوة غالبة أو عن إلمام بحكم الاتفاق‏:‏ اعلم أن الواجب عليه التوبة والندم والاشتغال بالتكفير بحسنة تضاده كما ذكرنا طريقه فإن لم تساعده النفس على العزم على الترك لغلبة الشهوة فقد عجز عن أحد الواجبين فلا ينبغي أن يترك الواجب الثاني وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة ليمحوها فيكون ممن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فالحسنات المكفرة للسيئات إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح ولتكن الحسنة في محل السيئة وفيما يتعلق بأسبابها‏.‏

فأما بالقلب فليكفره بالتضرع إلى الله تعالى في سؤال المغفرة والعفو ويتذلل تذلل العبد الآبق ويكون ذله بحيث يظهر لسائر العباد وذلك بنقصان كبره فيما بينهم فما للعبد الآبق المذنب وجه للتكبر على سائر العباد وكذلك يضمر بقلبه الخيرات للمسلمين والعزم على الطاعات‏.‏

وأما باللسان فبالاعتراف بلظلم والاستغفار فيقول‏:‏ رب ظلمت نفسي وعملت سوءاً فاغفر لي ذنوبي وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار - كما أوردنا في كتاب الدعوات والأذكار‏.‏

وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات وفي الآثار ما يدل على أن الذنب إذا اتبع بثمانية أعمال كان العفو عنه مرجواً أربعة من أعمال القلوب وهي‏:‏ التوبة أو العزم على التوبة وحب الإقلاع عن الذنب وتخوف العقاب عليه ورجاء المغفرة له‏.‏

وأربعة من أعمال الجوارح وهي‏:‏ أن تصلي عقيب الذنب ركعتين ثم تستغفر الله تعالى بعدهم سبعين مرة وتقول‏:‏ سبحان الله العظيم وبحمده مائة مرة ثم تتصدق بصدقة ثم تصوم يوماً وفي بعض الآثار‏:‏ تسبغ

الوضوء وتدخل المسجد وتصلي ركعتينوفي بعض الأخبار‏:‏ تصلي أربع ركعاتوفي الخبر ‏"‏ إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تكفرها السر بالسر والعلانية بالعلانية ‏"‏ ولذلك قيل صدقة السر تكفر ذنوب الليل وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار‏.‏

وفي الخبر الصحيح‏:‏ أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إني عالجت امرأة فأصبت منها كل شيءإلا المسيس فاقض علي بحكم الله تعالى فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أو ما صليت معنا صلاة الغداة ‏"‏ قال‏:‏ بلى فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الحسنات يذهبن السيئات ‏"‏ وهذا يدل على أن ما دون الزنا من معالجة النساء صغيرة إذ جعل الصلاة كفارة له بمقتضى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الصلوات الخمس كفارات لما بينهن إلا الكبائر ‏"‏ فعلى الأحوال كلها ينبغي أن يحاسب نفسه كل يوم ويجمع سيئاته ويجتهد في دفعها بالحسنات‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكيف يكون الاستغفار نافعاً من غير حل عقدة الإصرار وفي الخبر ‏"‏ المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بآيات الله ‏"‏ وكان بعضهم يقول‏:‏ أستغفر من قولي أستغفر الله

وقيل الاستغفار باللسان توبة الكذابين وقالت رابعة العدوية‏:‏ استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير‏!‏ فاعلم أنه قد ورد في فضل الاستغفار أخبار خارجة عن الحصر - ذكرناها في كتاب الأذكار والدعوات - حتى قرن الله الاستغفار ببقاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ‏"‏ فكان بعض الصحابة يقول‏:‏ كان لنا أمانان ذهب أحدهما وهو كون الرسول فينا وبقي الاستغفار معنا فإن ذهب هلكنا فنقول‏:‏ الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو الاستغفار بمجرد اللسان من غير أن يكون للقلب فيه شركة كما يقول الإنسان بحكم العادة وعن رأس الغفلة أستغفر الله وكما يقول إذا سمع صفة النار نعوذ بالله منها من غير أن يتأثر به قلبه وهذا يرجع إلى مجرد حركة اللسان ولا جدوى له فأما إذا انضاف إليه تضرع القلب إلى الله تعالى وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص نية ورغبة فهذه حسنة في نفسها فتصلح لأن تدفع بها السيئة وعلى هذا تحمل الأخبار الواردة في فضل الاستغفار حتى قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة ‏"‏ وهو عبارة عن الاستغفار بالقلب‏.‏

وللتوب والاستغفار درجات وأوائلها لا تخلو عن الفائدة وإن لم تنته إلى أواخرها ولذلك قال سهل‏:‏ لا بد للعبد في كل حال من مولاه فأحسن أحواله أن يرجع إليه في كل شيء فإن عصى قال يا رب استر علي فإذا فرغ من المعصية قال يا رب تب علي فإذا تاب قال يا رب ارزقني العصمة وإذا عمل قال يا رب تقبل مني‏.‏

وسئل أيضاً عن الاستغفار الذي يكفر الذنوب فقال‏:‏ أول الاستغفار الاستجابة ثم الإنابة ثم التوبة فالاستجابة أعمال الجوارح والإنابة أعمال القلوب والتوبة إقباله على مولاه بأن يترك الخلق ثم يستغفر الله من تقصيره الذي هو فيه ومن الجهل بالنعمة وترك الشكر فعند ذلك يغفر له ويكون عنده مأواه ثم التنقل إلى الانفراد ثم الثبات ثم البيان ثم الفكر ثم المعرفة ثم المناجاة ثم المصافاة ثم الموالاة ثم محادثة السر وهو الخلة‏.‏

ولا يستقر هذا في قلب عبد حتى يكون العلم غذاءه والذكر قوامه والرضا زاده والتوكل صاحبه ثم ينظر الله إليه فيرفعه إلى العرش فيكون مقامه مقام حملة العرش وسئل أيضاً عن قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ التائب حبيب الله ‏"‏ فقال‏:‏ إنما يكون حبيباً إذا كان فيه جميع ما ذكر في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ التائبون العابدون ‏"‏ الآية‏.‏

وقال‏:‏ الحبيب هو الذي لا يدخل فيما يكرهه حبيبه‏.‏

والمقصود أن للتوبة ثمرتين‏:‏ إحداهما تكفير السيئات حتى يصير كم لا ذنب له‏.‏

الثانية نيل الدرجات حتى يصير حبيباً‏.‏

وللتكفير أيضاً درجات‏:‏ فبعضه محو لأصل الذنب بالكلية وبعضه تخفيف له ويتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة فالاستغفار بالقلب والتدارك بالحسنات - وإن خلا عن حل عقدة الإصرار‏.‏

من أوائل الدرجات فليس يخلو عن الفائدة أصلاً فلا ينبغي أن تظن أن وجودها كعدمها‏.‏

بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب معرفة لا ريب فيها أن قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فمن يعمل مثاقل ذرة خيراً يره ‏"‏ صدق وأنه لا تخلو ذرة من الخير عن أثر كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها ولكان لا يرجح الميزان بأحمال الذرات وذلك بالضرورة محال بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخير إلى أن يثقل فترفع كفة السيئات فإياك أن تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها وذرات المعاصي فلا تنفيها كالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعللاً بأنها لا تقدر في كل ساعة إلا على خيط واحد وتقول‏:‏ أي غني يحصل بخيط وما وقع ذلك في الثياب ولا تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطاً خيطاً وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرة ذرة‏.‏

فإذن التضرع والاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع عند الله أصلاً‏.‏

بل أقول‏:‏ الاستغفار باللسان أيضاً حسنة إذ حركة اللسان بها عن غفلة خير من حركة اللسان في تلك الساعة بغيبة مسلم أو فضول كلام بل هو خير من السكوت عنه فيظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه وإنما يكون نقصاناً بالإضافة إلى عمل القلب‏.‏

ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان المغربي‏:‏ إن لساني في بعض الأحوال يجري بالذكر والقرآن وقلبي غافل‏.‏

فقال‏:‏ اشكر الله إذ استعمل جارحة من جوارحك في الخير وعوده الذكر ولم يستعمله في الشر ولم يعوده الفضول‏.‏

وما ذكره حق فإن تعود الجوارح للخير حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي‏.‏

فمن تعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذباً سبق لسانه إلى ما تعود فقال‏:‏ أستغفر الله‏.‏

ومن تعود الفضول سبق لسانه إلى قول ما أحمقك وما أقبح كذبك‏!‏ ومن تعود الاستعاذة إذا حدث بظهور مبادئ الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان‏:‏ نعوذ بالله وإذا تعود الفضول قال‏:‏ لعنه الله فيعصي في إحدى الكلمتين ويسلم في الأخرى وسلامته أثر اعتياد لسانه الخير وهو من جملة معاني قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله لا

يضيع أجر المحسنين ‏"‏ ومعاني قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجراً عظيماً ‏"‏ فانظر كيف ضاعفها إذ جعل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان حتى دفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول هذا تضعيف في الدنيا لأدنى الطاعات وتضعيف الآخرة ‏"‏ أكبر لو كانوا يعلمون ‏"‏ فإياك وأن تلمح في الطاعات مجرد الآفات فتفتر رغبتك عن العبادات فإن هذه مكيدة روجها الشيطان بلعنته على المغرورين وخيل إليهم أنهم أرباب البصائر وأهل التفطن للخفايا والسرائر فأي خير في ذكرنا باللسان مع غفلة القلب فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاث أقسام‏:‏ ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات أما السابق فقال صدقت يا ملعون ولكن هي كلمة حق أردت بها باطلاً‏.‏

فلا جرم أعذبك مرتين وأرغم أنفك من وجهين فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه وأما الظالم المغرور‏:‏ فاستشعر في نفسه خيلاء الفطنة لهذه الدقيقة ثم عجز عن الإخلاص بالقلب مع ذلك تعويد اللسان بالذكر فأسعف الشيطان وتدلى بحبل غروره فتمت بينهما المشاركة والموافقة كما قيل‏:‏ وافق شن طبقه وافقه فاعتنقه وأما المقتصد‏:‏ فلم يقدر على إرغامه بإشراك القلب في العمل وتفطن لنقصان حركة اللسان بالإضافة إلى القلب ولكن اهتدى إلى كماله بالإضافة إلى السكوت والفضول فاستمر عليه وسأل الله تعالى أن يشرك القلب مع اللسان في اعتياد الخير‏.‏

فكان السابق كالحائك الذي ذمت حياكته فتركها وأصبح كاتباً‏.‏

والظالم المتخلف كالذي ترك الحياكة أصلاً وأصبح كناساً والمقتصد كالذي عجز عن الكتابة فقال‏:‏ لا أنكر مقدمة الحياكة ولكن الحياكة مذموم بالإضافة إلى الكاتب لا بالإضافة إلى الكناس فإذا عجزت عن الكتابة فلا أترك الحياكة‏.‏

ولذلك قالت رابعة العدوية‏:‏ استغفارنا يحتاج إلى استغفار كثير‏.‏

فلا تظن أنها تذم حركة اللسان من حيث إنه ذكر الله بل تذم غفلة القلب فهو محتاج إلى الاستغفار من غفلة قلبه لا من حركة لسانه فإن سكت عن الاستغفار باللسان أيضاً احتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد فهكذا ينبغي أن تفهم ذم ما يذم وحمد ما يحمد وإلا جهلت معنى ما قال القائل الصادق‏:‏ حسنات الأبرار سيئات المقربين فإن هذه أمور تثبت بالإضافة فلا ينبغي أن تؤخذ من غير إضافة بل ينبغي أن لا تستحقر ذرات الطاعات والمعاصي‏.‏

ولذلك قال جعفر الصادق‏:‏ إن الله تعالى خبأ ثلاثاً في ثلاث‏:‏ رضاه في طاعته فلا تحقروا منها شيئاً فلعل رضاه فيه وغضبه في معاصيه فلا تحقروا منها شيئاً فلعل غضبه فيه وخبأ ولايته في عباده فلا تحقروا منهم أحداً فلعله ولي الله تعالى‏.‏

وزاد‏:‏ وخبأ إجابته في دعائه فلا تتركوا الدعاء فربما كانت الإجابة فيه‏.‏

الركن الرابع في دواء التوبة وطريق العلاج لحل عقدة الإصرار

اعلم أن الناس قسمان‏:‏ شاب لا صبوة له نشأ على الخير واجتناب الشر وهو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تعجب ربك من شاب ليست له صبوة ‏"‏ وهذا عزيز نادر‏.‏

والقسم الثاني‏:‏ هو الذي لا يخلو عن مقارفة الذنوب ثم هم ينقسمون إلى مصرين وإلى تائبين وغرضنا أن نبين العلاج في حل عقدة الإصرار ونذكر الدواء فيه‏.‏

فاعلم أن شفاء التوبة لا يحصل إلا بالدواء ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء إذ لا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء فكل داء حصل من سبب فدواؤه ذلك السبب ورفعه وإبطاله‏.‏

ولا يبطل الشيء لا بضده‏.‏

ولا سبب للإصرار إلا الغفلة والشهوة ولا يضاد الغفلة إلا العلم ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة والغفلة رأس الخطايا قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ وأولئك هم الغافلون لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون ‏"‏ فلا دواء إذن للتوبة إلا معجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر كما يجمع السكنجين بين حلاوة السكر وحموضة الخل ويقصد بكل منهما غرض آخر في العلاج بمجموعهما فيقع الأسباب المهيجة للصفراء فهكذا ينبغي أن تفهم علاج القلب مما به من مرض الإصرار فإن لهذا الدواء أصلان‏:‏ أحدهما العلم والآخر الصبر ولا بد من بيانهما‏.‏

فإن قلت‏:‏ أينفع كل علم لحل الإصرار أم لا بد من علم مخصوص فاعلم أن العلوم بجملتها أدوية

لأمراض القلوب ولكن لكل مرض علم يخصه كما أن علم الطب نافع في علاج الأمراض بالجملة ولكن يخص كل علة علم مخصوص فكذلك دواء الإصرار‏.‏

فلنذكر خصوص ذلك العلم على موازنة مرض الأبدان ليكون أقرب إلى الفهم فنقول‏:‏ يحتاج المريض إلى التصديق بأمور‏:‏ الأول أن يصدق على الجملة بأن للمرضوالصحة أسباباً يتوصل إليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب وهذا هو الإيمان بأصل الطب فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج ويحق عليه الهلاك‏.‏

وهذا وزانه مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع وهو أن للسعادة في الآخرة سبباً هو الطاعة وللشقاوة سبباً هو المعصية وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع وهذا لا بد من حصوله إما عن تحقيق أو تقليد وكلاهما من جملة الإيمان‏.‏

الثاني أنه لا بد من أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب حاذق فيه صادق فيما يعبد عنه لا يلبس ولا يكذب فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان‏.‏

وزانه مما نحن فيه‏:‏ العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق ولا كذب فيه ولا خلف‏.‏

الثالث أنه لا بد أن يصغي إلى الطبيب فيما يحذره عنه من تناول الفواكه والأسباب المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء فتكون شدة الخوف باعثة له على الاحتماء ووزانه من الدين‏:‏ الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى والتحذير من ارتكاب الذنوب واتباع الهوى والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه من ذلك من غير شك واسترابة حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر الذي هو الركن الآخر في العلاج‏.‏

الرابع‏:‏ أن يصغي إلى الطبيب فيما يخص مرضه وفيما يلزمه في نفسه الاحتماء عنه ليعرفه أولاً تفصيل ما يضره من أفعاله وأحواله ومأكوله ومشروبه فليس على كل مريض الاحتماء عن كل شيء ولا ينفعه كل دواء بل لكل علة خاصة علم خاص وعلاج خاص ووزانه من الدين‏:‏ أن كل

عبد فليس يبتلى بكل شهوة وارتكاب ذنب بل لكل مؤمن ذنب مخصوص أو ذنوب مخصوصة وإنما حاجته في الحال مرهقة إلى العلم بأنها ذنوب ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها ثم العلوم بكيفية التوصل إلى الصبر عنها ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها‏.‏

فهذه علوم يختض بها أطباء الدين وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فالعاصي إن علم عصيانه فعليه طلب العلاج ومن الطبيب وهو العالم وإن كان لا يدري أن ما يرتكبه ذنب فعلى العالم أن يعرفه ذلك وذلك بأن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلدة أو محلة أو مسجد أو مشهد فيعلم أهله دينهم ويميز ما يضرهم عما ينفعهم وما يشقيهم عما يسعدهم ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يسأل عنه بل ينبغي أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه فإنهم ورثة الأنبياء والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم بل كانوا ينادونهم في مجامعهم ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء ويطلبون واحداً واحداً فيرشدونهم فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم كما أن الذي ظهر على وجهه برص ولا مرآة معه لا يعرف برصه ما لم يعرفه غيره وهذا فرض عين على العلماء كافة‏.‏

وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية وفي كل محلة فقيهاً متديناً يعلم الناس دينهم فإن الخلق لا يولدون إلا جهالاً فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع‏.‏

والدنيا دار المرضى إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ولا على ظهرها إلا سقيم‏.‏

ومرضى القلوب أكثر من مرضى الأبدان‏.‏

والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى‏.‏

فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم يسلم إلى السلطان ليكف شره كما يسلم الطبيب الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس‏.‏

وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل إحداهما‏:‏ أن المريض به لا يدري أنه مريض‏.‏

والثانية‏:‏ أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه وما بعد الموت غير مشاهد‏.‏

وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير مشاهد في هذا العالم فقلت النفرة عن الذنوب وإن علمها مرتكبها فلذلك تراه يشكل على فضل الله في مرض القلب ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال‏.‏

الثالثة‏:‏ وهو الداء العضال فقد الطبيب فإن الأطباء هم العلماء وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضاً شديداً عجزوا عن علاجه وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضاً لأن الداء المهلك هو حب الدنيا وقد غلب هذا الداء وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافاً من أن يقال لهم‏:‏ فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم فبهذا السبب عم على الخلق الداء وعظم الوباء وانقطع الدواء وهلك الخلق لفقد الأطباء بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء فليتهم إذا لم ينصحوا لم يغشوا وإذا لم يصلحوا لم يفسدوا وليتهم سكتوا وما نطقوا فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يرغب العوام ويستميل قلوبهم ولا يتوصلون إلى ذلك

إلا بالإرجاء وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع وأخف على الطباع فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي ومزيد ثقة بفضل الله‏:‏ ومهما كان الطبيب جاهلاً أو خائباً أهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه‏.‏

فالرجاء والخوف دواءان ولكن لشخصين متضادي العلة‏.‏

أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية وكلف نفسه ما لا تطيق وضيق العيش على الذنوب بالكلية‏:‏ فتكسر سورة إسرافه في الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود إلى الاعتدال‏.‏

وكذلك المصر على الذنوب المشتهي للتوبة الممتنع بحكم القنوط واليأس استعظاماً لذنوبه التي سبقت‏:‏ يعالج أيضاً بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب‏.‏

فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلباً للشفاء وذلك من دأب الجهال والأغبياء‏.‏

فإذن فساد

الأطباء هي المعضلة الزباء التي لا تقبل الدواء أصلاً‏.‏

فإن قلت‏:‏ فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق فاعلم أن ذلك يطول ولا يمكن استقصاؤه‏.‏

نعم نشير إلى الأنواع النافعة في حمل عقدة الإصرار وحمل الناس على ترك الذنوب وهي أربعة أنواع‏:‏ الأول‏:‏ أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما من يوم طلع فجره ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما‏:‏ يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا‏!‏ ويقول الآخر‏:‏ يا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا‏!‏ فيقول الآخر‏:‏ يا ليتهم إذ علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا ‏"‏ وفي بعض الروايات‏:‏ ‏"‏ ليتهم تجالسوا فتذكروا ما علموا‏!‏ ويقول الآخر‏:‏ يا ليتهم إذ لم يعلموا بما علموا تابوا مما عملوا ‏"‏ وقال لبعض السلف إذا أذنب العبد أمر صاحب اليمين صاحب الشمال وهو أمير عليه أن يرفع القلم عنه ست ساعات فإن تاب واستغفر لم يكتبها عليه وإن لم يستغفر كتبها‏.‏

وقال بعض السلف‏:‏ ما من عبد يعصى إلا استأذن مكانه من الأرض أن يخسف به واستأذن سقفه من السماء أن يسقط عليه كسفاً فيقول الله تعالى للأرض والسماء كفا عن عبدي وأمهلاه فإنكما لم تخلقاه ولو خلقتماه لرحمتماه ولعله يتوب إلي فأغفر له ولعله يستبدل صالحاً فأبدله له حسنات فذلك معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الله يمسك السموات والأرض أن تزولا ولئن زالتا إن أمسكهما من أحد من بعده ‏"‏ وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه‏:‏ الطابع معلق بقائمة العرش فإذا انتهكت الحرمات واستحلت المحارم أرسل الله الطابع فيطبع على القلوب بما فيها وفي حديث مجاهد‏:‏ القلب مثل الكف المفتوحة كلما أذنب العبد ذنباً انقبضت إصبع حتى تنقبض الأصابع كلها فيسد على القلب فذلك هو الطبع وقال الحسن‏:‏ إن بين العبد وبين الله حداً من المعاصي معلوماً إذا بلغه العبد طبع الله على قلبه فلم يوفقه بعدها لخير‏.‏

والأخبار والآثار في ذم المعاصي ومدح التائبين لا تحصى فينبغي أن يستكثر الواعظ منها إن كان وارث رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه ما خلف ديناراً ولا درهماً إنما خلف العلم والحكمة وورثه كل عالم بقدر ما أصابه‏.‏

النوع الثاني‏:‏ حكايات الأنبياء والسلف الصالحين وما جرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم فلذلك شديد الوقع ظاهر النفع في قلوب الخلق مثل أحوال آدم صلى الله عليه وسلم في عصيانه وما لقيه من الإخراج من الجنة حتى روى أنه لما أكل من الشجرة تطايرت الحلل عن جسده وبدت عورته فاستحيا التاج والإكليل من وجهه أن يرتفعا عنه فجاءه جبريل عليه السلام فأخذ التاج عن رأسه وحل الإكليل عن جبينه ونودي من فوق العرش‏:‏ اهبطا من جواري فإنه لا يجاورني من عصاني‏.‏

قال‏:‏ فالتفت آدم إلى حواء باكياً وقال‏:‏ هذا أول شؤم المعصية أخرجنا من جوار الحبيب‏.‏

وروى أن سليمان بن داود عليهما السلام لما عوقب على خطيئته لأجل التمثال الذي عبد في داره أربعين يوماً وقيل‏:‏ لأن المرأة سألته أن يحكم لأبيها فقال‏:‏ نعم ولم يفعل وقيل‏:‏ بل أحب بقلبه أن يكون الحكم لأبيها على خصمه لمكانها منه فسلب ملكه أربعين يوماً فهرب تائهاً على وجهه فكان يسأل بكفه فلا يطعم فإذا قال أطعموني فإني سليمان بن داود فشج وطرد وضرب‏.‏

وحكى أنه استطعم من بيت لامرأته فطردته وبصقت في وجهه‏.‏

وفي رواية‏:‏ أخرجت عجوز جرة فيها بول فصبته على رأسه إلى أن أخرج الله الخاتم من بطن الحوت فلبسه بعد انقضاء الأربعين - أيام العقوبة - قال‏:‏ فجاءت الطيور فعكفت على رأسه وجاءت الجن والشياطين والوحوش فاجتمعت حوله فاعتذر إليه بعض من كان جنى عليه فقال‏:‏ لا ألومكم فيما فعلتم من قبل ولا أحمدكم في عذركم الآن إن هذا أمر كان من السماء ولا بد منه‏.‏

وروي في الإسرائيليات‏:‏ أن رجلاً تزوج امرأة من بلدة أخرى فأرسل عبده ليحملها إليه فراودته نفسه وطالبته بها فجاهدها واستعصم قال‏:‏ فنبأه الله ببركة تقواه فكان نبياً في بني إسرائيل‏.‏

وفي قصص موسى عليه السلام أنه قال للخضر عليه السلام‏:‏ بم أطلعك الله على علم الغيب قال‏:‏ بتركي المعاصي لأجل الله تعالى‏.‏

وروي أن الريح كانت تسير بسليمان عليه السلام فنظر إلى قميصه نظرة وكان جديداً فكان أعجبه‏!‏ قال‏:‏ فوضعته الريح فقال‏:‏ لم فعلت هذا ولم وروي أن الله تعالى أوحى إلى يعقوب عليه السلام‏:‏ أتدري لم فرقت بينك وبين ولدك يوسف قال‏:‏ لا قال‏:‏ لقولك لأخوته‏:‏ ‏"‏ أخاف أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون ‏"‏ لم خفت عليه الذئب ولم ترجني ولم نظرت إلى غفلة أخوته ولم تنظر إلى حفظي له وتدري لم رددته عليك قال‏:‏ لا قال‏:‏ لأنك رجوتني وقلت‏:‏ ‏"‏ عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً ‏"‏ وبما قلت‏:‏ ‏"‏ اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا ‏"‏ وكذلك لما قال يوسف لصاحب الملك‏:‏ ‏"‏ اذكرني عند ربك ‏"‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين ‏"‏‏.‏

وأمثال هذه الحكايات لا تنحصر ولم يرد بها القرآن والأخبار ورود الأسمار بل الغرض بها الاعتبار والاستبصار لتعلم أن الأنبياء عليهم السلام لم يتجاوز عنهم في الذنوب الصغار فكيف يتجاوز عن غيرهم في الذنوب الكبار نعم كانت سعادتهم في أن عوجلوا بالعقوبة ولم يؤخروا إلى الآخرة والأشقياء يمهلون ليزدادوا إثماً ولأن عذاب الآخرة أشد وأكبر‏.‏

فهذا أيضاً مما ينبغي أن يكثر جنسه على أسماع المصرين فإنه نافع في تحريك دواعي التوبة‏.‏

النوع الثالث‏:‏ أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته فرب عبد يتساهل في أمر الآخرة ويخاف من عقوبة الله في الدنيا أكثر لفرط جهله فينبغي أن يخوف به فإن الذنوب كلها يتعجل في الدنيا شؤمها في غالب الأمر كما حكي في قصة داود وسليمان عليهما السلام حتى إنه قد يضيق على العبد رزقه بسبب ذنوبه وقد تسقط منزلته من القلوب ويستولي عليه أعداؤه قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ‏"‏ وقال ابن مسعود‏:‏ إني لأحسب أن العبد ينسى العلم بالذنب يصيبه وهو معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ من قارف ذنباً فارقه عقل لا يعود إليه أبداً ‏"‏ وقال بعض السلف‏:‏ ليست اللعنة سواداً في الوجه ونقصاً في المال إنما اللعنة أن لا تخرج من ذنب إلا وقعت في مثله أو شر منه وهو كما قال لأن اللعنة هي الطرد والإبعاد فإذا لم يوفق للخير ويسر له الشر فقد أبعد والحرمان عن رزق التوفيق أعظم حرمان وكل ذنب فإنه يدعو إلى ذنب آخر ويتضاعف فيحرم العبد به عن رزقه النافع من مجالسة العلماء المنكرين للذنوب ومن مجالسة الصالحين بل يمقته الله تعالى ليمقته الصالحون وحكي عن بعض العارفين أنه كان يمشي في الوحل جامعاً ثيابه محرزاً عن زلقة رجله حتى زلقت رجله وسقط فقام وهو يمشي في وسط الوحل ويبكي ويقول‏:‏ هذا مثل العبد لا يزال يتوقى الذنوب ويجانبها حتى يقع في ذنب أو ذنبين فعندها يخوض في الذنوب خوضاً‏.‏

وهو إشارة إلى أن الذنب تتعجل عقوبته بالانجرار إلى ذنب آخر‏.‏

ولذلك قال الفضيل‏:‏ ما أنكرت من تغير الزمان وجفاء الإخوان فذنوبك ورثتك ذلك‏.‏

وقال بعضهم إني لأعرف عقوبة ذنبي في سوء خلق حماري‏.‏

وقال آخر‏:‏ أعرف العقوبة حتى في فأر بيتي‏.‏

وقال بعض صوفية الشام‏:‏ نظرت إلى غلام نصراني حسن الوجه فوقفت أنظر إليه فمر بي ابن الجلاء الدمشقي فأخذ بيدي فاستحييت منه فقلت‏:‏ يا أبا عبد الله سبحان الله تعجبت من هذه الصورة الحسنة وهذه الصنعة المحكمة كيف خلقت للنار‏!‏ فغمز يدي وقال‏:‏ لتجدن عقوبتها بعد حين قال‏:‏ فعوقبت بها بعد ثلاثين سنة‏.‏

وقال أبو سليمان الداراني‏:‏ الاحتلام عقوبة‏.‏

وقال‏:‏ لا يفوت أحداً صلاة جماعة إلا بذنب يذنبه‏.‏

وفي الخبر‏:‏ ‏"‏ ما أنكرتم من زمانكم فيما غيرتم من أعمالكم ‏"‏ وفي الخبر ‏"‏ يقول الله تعالى‏:‏ إن أدنى ما أصنع بالعبد إذا آثر شهوته على طاعتي أن أحرمه لذيذ مناجاتي‏.‏

وحكي عن أبي عمرو بن علوان - في قصة يطول ذكرها - قال فيها‏:‏ كنت قائماً ذات يوم أصلى فخامر قلبي هوى طاولته بفكرتي حتى تولد منه شهوة الرجال فوقعت إلى الأرض واسود جسدي كله فاستترت في البيت فلم أخرج ثلاثة أيام وكنت أعالج غسله في الحمام بالصابون فلا يزداد إلا سواداً حتى انكشفت بعد ثلاث فلقيت الجنيد وكان قد وجه إلي فأشخصني من الرقة فلما أتيته قال لي‏:‏ أما استحييت من الله تعالى كنت قائماً بين يديه فساررت نفسك بشهوة حتى استولت عليك برقة وأخرجتك من بين يدي الله تعالى فلولا أني دعوت الله لك وتبت إليه عنك للقيت الله بذلك اللون قال فعجبت كيف علم بذلك وهو ببغداد وأنا بالرقة ‏.‏

واعلم انه لا يذنب العبد ذنباً إلا ويسود وجه قلبه فإن كان سعيداً أظهر السواد على ظاهره لينزجر وإن كان شقياً أخفى عنه حتى ينهمك ويستوجب النار‏.‏

والأخبار كثيرة في آفات الذنوب في الدنيا من الفقر والمرض وغيره‏.‏

بل من شؤم الذنب في الدنيا على الجملة أن يكسب ما بعده صفته فإن ابتلي بشيء كان عقوبة له ويحرم جميل الرزق حتى يتضاعف شقاؤه وإن أصابته نعمة كانت استدراجاً له ويحرم جميل الشكر حتى يعاقب على كفرانه‏.‏

وأما المطيع فمن بركة طاعته أن تكون كل نعمة في حقه جزاء على طاعته ويوفق لشكرها وكل بلية كفارة لذنوبه وزيادة في درجاته‏.‏

النوع الرابع‏:‏ ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب كالخمر والزنا والسرقة والقتل والغيبة والكبر والحسد وكل ذلك مما لا يمكن حصره وذكره مع غير أهله وضع الدواء في غير موضعه بل ينبغي أن يكون العالم كالطبيب الحاذق فيستدل أولاً بالنبض والسحنة ووجود الحركات على العلل الباطنة ويشتغل بعلاجها فيستدل بقرائن الأحوال على خفايا الصفات وليتعرض لما وقف عليه اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال له واحد‏:‏ أوصني يا رسول الله ولا تكثر علي قال‏:‏ ‏"‏ لا تغضب ‏"‏ وقال له آخر‏:‏ أوصني يا رسول الله فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ عليك باليأس مما في أيدي الناس فإن ذلك هو الغنى وإياك والطمع فإنه الفقر الحاضر وصل صلاة وقال رجل لمحمد بن واسع‏:‏ أوصني فقال‏:‏ أوصيك أن تكون ملكاً في الدنيا والآخرة قال‏:‏ وكيف لي بذلك قال‏:‏ الزم الزهد في الدنيا‏.‏

فكأنه صلى الله عليه وسلم توسم في السائل الأول مخايل الغضب فنهاه عنه وفي السائل الآخر مخايل الطمع في الناس وطول الأمل‏.‏

وتخيل محمد بن واسع في السائل مخايل الحرص على الدنيا‏.‏

وقال رجل لمعاذ‏:‏ أوصني فقال‏:‏ كن رحيماً أكن لك بالجنة زعيماً‏.‏

فكأنه تفرس فيه آثار الفظاظة والغلظة‏.‏

وقال رجل لإبراهيم بن أدهم‏:‏ أوصني فقال‏:‏ إياك والناس وعليك بالناس ولا بد من الناس فإن الناس هم الناس وليس كل الناس بالناس ذهب الناس وبقي النسناس وما أراهم بالناس بل غمسوا في ماء الياس‏.‏

فكأنه تفرس فيه آفة المخالطة وأخبر عما كان هو الغالب على حاله في وقته وكان الغالب أذاه بالناس‏.‏

والكلام على قدر حال السائل أولى من أن يكون بحسب حال القائل‏.‏

وكتب معاوية رحمه الله إلى عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن اكتبي لي كتاباً توصيني فيه ولا تكثري فكتبت إليه‏:‏ من عائشة إلى معاوية سلام عليك أما بعد فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس ومن التمس سخط الله برضا الناس وكله الله إلى الناس ‏"‏ والسلام عليك‏.‏

فانظر إلى فقهها كيف تعرضت للآفة التي تكون الولاة بصددها‏.‏

وهي مراعاة الناس وطلب مرضاتهم‏.‏

وكتبت إليه مرة أخرى‏:‏ أما بعد فاتق الله فإنك إذا اتقيت الله كفاك الناس وإذا اتقيت الناس لم يغنوا عنك من الله شيئاً والسلام‏.‏

فإذن على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات الخفية وتوسم الأحوال اللائقة ليكون اشتغاله بالمهم فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد غير ممكنة والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن التوعظ فيه تضييع زمان‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإن كان الواعظ يتكلم في جمع أو سأله من لا يدرى باطن حاله فكيف يفعل فاعلم أن طريقه في ذلك أن يعظه بما يشترك كافة الخلق في الحاجة إليه على العموم وإلا على الأكثر فإن في علوم الشرع أغذية وأدوية فالأغذية للكافة والأدوية لأرباب العلل‏.‏

ومثاله ما روي أن رجلاً قال لأبي سعيد الخدري‏:‏ أوصني قال‏:‏ عليك بتقوى الله عز وجل فإنها رأس كل خير وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام وعليك بالقرآن فإنه نور لك في أهل الأرض وذكر لك في أهل السماء وعليك بالصمت إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان‏.‏

وقال رجل للحسن‏:‏ أوصني فقال‏:‏ أعز أمر الله يعزك الله‏.‏

وقال لقمان لابنه‏:‏ يا بني زاحم العلماء بركبتيك ولا تجادلهم فيمقتوك وخذ من الدنيا بلاغك وأنفق فضول كسبك لآخرتك ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالاً وعلى أعناق الرجال كلاً وصم صوماً يكسر شهوتك ولا تصم صوماً يضر بصلاتك فإن الصلاة أفضل من الصوم ولا تجالس السفيه ولا تخالط ذا الوجهين وقال أيضاً لابنه‏:‏ يا بني لا تضحك من غير عجب ولا تمش في غير أرب ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك وتصلح مال غيرك فإن مالك ما قدمت ومال غيرك ما تركت يا بني إن من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يقل الخير يغنم ومن يقل الشر يأثم ومن لا يملك لسانه يندم‏.‏

وقال رجل لأبي حازم‏:‏ أوصني فقال‏:‏ كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة فالزمه وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه‏.‏

وقال موسى للخضر عليهما السلام‏:‏ أوصني فقال‏:‏ كن بساماً ولا تكن غضاباً وكن نفاعاً ولا تكن ضراراً وانزع عن اللجاجة ولا تمش في غير حاجة ولا تضحك من غير عجب ولا تعير الخطائين بخطاياهم وابك على خطيئتك يا ابن عمران‏.‏

وقال رجل لمحمد بن كرام‏:‏ أوصني فقال‏:‏ اجتهد في رضا خالقك بقدر ما تجتهد في رضا نفسك‏.‏

وقال رجل لحامد اللفاف‏:‏ أوصني فقال‏:‏ اجعل لدينك غلافاً كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات قال‏:‏ وما غلاف الدين قال‏:‏ ترك طلب الدنيا إلا ما لا بد منه وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه‏.‏

وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى‏:‏ أما بعد فخف مما خوفك الله واحذر مما حذرك الله وخذ مما في يديك لما بين يديك فعند الموت يأتيك الخبر اليقين والسلام‏.‏

وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن يسأل أن يعظه فكتب إليه‏:‏ أما بعد فإن الهول الأعظم والأمور المفظعات أمامك ولا بد لك من مشاهدة ذلك إما بالنجاة وإما بالعطب واعلم أن من حاسب نفسه ربح ومن غفل عنها خسر ومن نظر في العواقب نجا ومن أطاع هواه ضل ومن حلم غنم ومن خاف أمن ومن أمن اعتبر ومن اعتبر أبصر ومن أبصر فهم ومن فهم علم فإذا زللت فأقلع وإذا جهلت فاسأل وإذا غضبت فأمسك‏.‏

وكتب مطرف بن عبد الله إلى عمر عبد العزيزرحمه الله‏:‏ أما بعد فإن الدنيا دار عقوبة ولها يجمع من لا عقل له وبها يغتر من لا علم عنده فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء‏.‏

وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطأة‏:‏ أما بعد فإن الدنيا عدوة أولياء الله وعدوة أعداء الله فأما أولياؤه فغمتهم وأما أعداؤه فغرتهم‏.‏

وكتب أيضاً إلى بعض عماله‏:‏ أما بعد فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئاً إلا كان زائلاً عنهم باقياً عليك واعلم أن الله عز وجل آخذ للمظلومين من الظالمين والسلام‏.‏

فهكذا ينبغي أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدري خصوص واقعته فهذه المواعظ مثل الأغذية التي يشترك الكافة في الانتفاع بها‏.‏

ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ وغلبت المعاصي واستسرى الفساد وبلي الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعاً وينشدون أبياتاً ويتكلفون ذكر ما ليس في سعة علمهم ويتشبهون بحال غيرهم فسقط عن قلوب العامة وقارهم ولم يكن كلامهم صادراً من القلب ليصل إلى القلب بل القائل متصلف والمستمع متكلف وكل واحد منهما مدبر ومتخلف‏.‏

فإذن كان طلب الطبيب أول علاج المرضى وطلب العلماء أول علاج العاصين‏.‏

فهذا أحد أركان العلاج وأصوله‏.‏

الأصل الثاني الصبر‏:‏ ووجه الحاجة إليه أن المريض إنما يطول مرضه لتناوله ما يضره وإنما يتناول ذلك‏:‏ إما لغفلته عن مضرته وإما لشدة غلبة شهوته فله سببان فما ذكرناه هو علاج الغفلة‏.‏

فيبقى علاج الشهوة - وطريق علاجها قد ذكرناه في كتاب رياضة النفس - وحاصله أن المريض إذا اشتدت ضراوته لمأكول مضر فطريقه أن يستشعر عظم ضرره ثم يغيب ذلك عن عينه فلا يحضره ثم يتسلى عنه بما يقرب منه في صورته ولا يكثر ضرره ثم يصبر بقوة الخوف على الألم الذي يناله في تركه فلا بد على كل حال من مرارة الصبر فكذلك يعالج الشهوة في المعاصي كالشاب مثلاً إذا غلبته الشهوة فصار لا يقدر على حفظ عينه ولا حفظ قلبه أو حفظ جوارحه في السعي وراء شهوته فينبغي أن يستشعر ضرر ذنبه بأن يستقري المخلوقات التي جاءت فيه من كتاب الله تعالى وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم فإذا اشتد خوفه تباعد من الأسباب المهيجة لشهوته ومهيج الشهوة من خارج‏.‏

هو حضور المشتهى والنظر إليه‏.‏

وعلاجه الهرب والعزلة‏.‏

ومن داخل‏:‏ تناول لذائذ الأطعمة وعلاجه الجوع والصوم الدائم‏.‏

وكل ذلك لا يتم إلا بصبر ولا يصبر إلا عن خوف ولا يخاف إلا عن علم ولا يعلم إلا عن بصيرة وافتكار أو عن سماع وتقليد فأول الأمر حضور مجالس الذكر ثم الاستماع من قلب مجرد عن سائر الشواغل مصروف إلى السماع ثم التفكر فيه لتمام الفهم وينبعث من تمامه لا محالة خوفه وإذا قوي الخوف تيسر بمعونته الصبر وانبعثت الدواعي لطلب العلاج وتوفيق الله وتيسيره من وراء ذلك‏.‏

فمن أعطى من قلبه حسن الإصغاء واستشعر الخوف فاتقى وانتظر الثواب وصدق بالحسنى فسييسره الله تعالى لليسرى‏.‏

وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسييسره الله للعسرى فلا يغني عنه ما اشتغل به من ملاذ الدنيا مهما هلك وتردى‏.‏

وما على الأنبياء إلا شرح طرق الهدى وإنما لله الآخرة والأولى‏.‏

فإن قلت‏:‏ فقد رجع الأمر كله إلى الإيمان لأن ترك الذنب إلا بالصبر عنه والصبر لا يمكن إلا بمعرفة الخوف والخوف لا يكون إلا بالعلم والعلم لا يحصل إلا بالتصديق بعظم ضرر الذنوب والتصديق بعظم ضرر الذنوب هو تصديق الله ورسوله وهو الإيمان فكأن من أصر عليه إلا لأنه غير مؤمن فاعلم أن هذا لا يكون لفقد الإيمان بل يكون لضعف الإيمان إذ كل مؤمن مصدق بأن المعصية سبب البعد من الله تعالى وسبب العقاب في الآخرة ولكن سبب وقوعه في الذنب أمور‏.‏

أحدها أن العقاب الموعود غيب ليس بحاضر والنفس جبلت متأثرة بالحاضر فتأثرها بالموعود ضعيف بالإضافة إلى تأثرها بالحاضر‏.‏

الثاني‏:‏ أن الشهوات الباعثة على الذنوب لذاتها ناجزة وهي في الحال آخذة بالمخنق وقد قوي ذلك واستولى عليها بسبب الاعتياد والإلف - والعادة طبيعة خامسة - والنزوع عن العاجل لخوف الآجل شديد على النفس ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏"‏ كلا بل تحبون العاجلة وتذرون الآخرة ‏"‏ وقال عز وجل‏:‏ ‏"‏ بل تؤثرون الحياة الدنيا ‏"‏ وقد عبر عن شدة الأمر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ‏"‏ وقول صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله تعالى خلق النار فقال لجبريل عليه السلام‏:‏ اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها‏!‏ فحفها بالشهوات ثم قال اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لقد خشيت أن لا يبقى أحد إلا دخلها‏.‏

وخلق الجنة فقال لجبريل عليه السلام‏:‏ اذهب فانظر إليها فنظر فقال وعزتك لا يسمع بها أحداً إلا دخلها فحفها بالمكاره ثم قال‏:‏ اذهب فانظر إليها فنظر إليها فقال‏:‏ وعزتك لقد خشيت أن لا يدخلها أحد ‏"‏ فإذاً كون الشهوة مرهقة في الحال وكون العقاب متأخراً إلى المآل سببان ظاهران في الاسترسال مع حصول أصل الإيمان فليس كل من يشرب في مرضه ماء الثلج لشدة عطشه مكذباً بأصل الطب ولا مكذباً بأن ذلك مضر في حقه ولكن الشهوة تغلبه وألم الصبر عنه ناجز فيهون عليه الألم المنتظر‏.‏

الثالث‏:‏ أنه ما من مذنب مؤمن إلا وهو الغالب عازم على التوبة وتكفير السيئات بالحسنات وقد وعد بأن ذلك يجبره إلا أن طول الأمل غالب على الطباع فلا يزال يسوف التوبة والتكفير فمن حيث رجاؤه التوفيق للتوبة ربما يقدم عليه مع الإيمان‏.‏

الرابع‏:‏ أنه ما من مؤمن موقن إلا وهو معتقد أن الذنوب لا توجب العقوبة إيجاباً لا يمكن العفو عنها فهو يذنب وينتظر العفو عنها اتكالاً على فضل الله تعالى‏.‏

فهذه أسباب أربعة موجبة نعم قد يقدم المذنب بسبب خامس يقدح في أصل إيمانه وهو كونه شاكاً في صدق الرسل وهذا هو الكفر كالذي يحذره الطبيب عن تناول ما يضره في المرض فإن كان المحذر ممن لا يعتقد فيه أنه عالم بالطب فيكذبه أو يشك فيه فلا يبالي به فهذا هو الكفر‏.‏

فإن قلت فما علاج الأسباب الخمسة فأقول هو الفكر وذلك بأن يقرر على نفسه في السبب الأول وهو تأخر العقاب أن كل ما هو آت آت وأن غداً للناظرين قريب وأن الموت أقرب إلى كل أحد من شراك نعله فما يدريه لعل الساعة قريب والمتأخر إذا وقع صار ناجزاً ويذكر نفسه أنه أبداً في دنياه يتعب في الحال لخوف أمر في الاستقبال إذا يركب البحار ويقاسي الأسفار لأجل الربح الذي يظن أنه قد يحتاج إليه في ثاني الحال بل لو مرض فأخبره طبيب نصراني بأن شرب الماء البارد يضره ويسوقه إلى الموت وكان الماء البارد ألذ الأشياء عنده تركه مع أن الموت آلمه لحظة إذا لم يخف ما بعده ومفارقته للدنيا لا بد منها فكم نسبة وجوده في الدنيا إلى عدمه أولاً وأبداً فلينظر كيف يبادر إلى ترك ملاذه بقول ذمي لم تقم معجزة على طبه فيقول‏:‏ كيف يليق بعقلي أن يكون قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات عندي دون قول نصراني يدعي الطب لنفسه بلا معجزة على طبه ولا يشهد له إلا عوام الخلق وكيف يكون عذاب النار عندي أخف من عذاب المرض وكل يوم في الآخرة بمقدار خمسين ألف سنة من أيام الدنيا وبهذا التفكر بعينه يعالج اللذة الغالبة عليه ويكلف نفسه تركها ويقول‏:‏ إذا كنت لا أقدر على ترك لذاتي أيام العمر وهي أيام قلائل فكيف أقدر على ذلك أبد الآباد وإذا كنت لا أطيق ألم الصبر فكيف أطيق ألم النار وإذا كنت لا أصبر عن زخارف الدنيا مع كدوراتها وتنغصها وامتزاج صفوها بكدرها فكيف أصبر عن نعيم الآخرة وأما تسويف التوبة فيعالجه بالفكر في أن أكثر صياح أهل النار من التسويف لأن المسوف يبني الأمر على ما ليس إليه وهو البقاء فلعله لا يبقى وإن بقي فلا يقدر على الترك غدا كما لا يقدر عليه اليوم فليت شعري هل عجز في الحال إلا لغلبة الشهوة والشهوة ليست تفارقه غداً بل تتضاعف إذ تتأكد بالاعتياد‏!‏ فليست الشهوة التي أكدها الإنسان بالعادة كالتي لم يؤكدها وعن هذا هلك المسوفون لأنهم يظنون الفرق بين المتماثلين ولا يظنون أن الأيام متشابهة في أن ترك الشهوات فيها أبداً شاق‏.‏

وما مثال المسوف إلا مثاله من احتاج إلى قلع شجرة فرآها قوية لا تنقلع إلا بمشقة شديدة فقال أؤخرها سنة ثم أعود إليها وهو يعلم أن الشجرة كلما بقيت ازداد رسوخها وهو كلما طال عمره ازداد ضعفه فلا حماقة في الدنيا أعظم من حماقته إذ عجز مع قوته عن مقاومة ضعيف فأخذ ينتظر الغلبة عليه إذا ضعف هو في نفسه وقوي الضعيف‏.‏

وأما المعنى الرابع‏:‏ وهو انتظار عفو الله فعلاجه ما سبق وهو كمن ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظراً من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان وهو مثل من يتوقع النهب من الظلمة في بلده وترك ذخائر أمواله في صحن داره وقدر على دفنها وإخفائها فلم يفعل وقال‏:‏ أنتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب حتى لا يتفرغ إلى داري أو إذا انتهى إلى داري مات على باب الدار‏!‏ فإن الموت ممكن والغفلة ممكنة‏!‏ وقد حكي في الأسمار أن مثل ذلك وقع فأنا أنتظر من فضل الله مثله فمنتظر هذا منتظر أمر ممكن ولكنه في غاية الحماقة والجهل إذ قد لا يمكن ولا يكون‏.‏

وأما الخامس وهو شك فهذا كفر وعلاجه الأسباب التي تعرفه صدق الرسل وذلك يطول‏.‏

ولكن يمكن أن يعالج بعلم قريب يليق بحد عقله فيقال له‏:‏ ما قاله الأنبياء المؤيدون بالمعجزات هل صدقه ممكن أو تقول أعلم أنه محال كما أعلم استحالة شخص واحد في مكانين في حالة واحدة فإن قال‏:‏ أعلم استحالته كذلك فهو أخرق معتوه وكأنه لا وجود لمثل هذا في العقلاء وإن قال‏:‏ أنا شاك فيه فيقال‏:‏ لو أخبرك شخص واحد مجهول عند تركك طعامه في البيت لحظة أنه ولغت فيه حية وألقت سمها فيه وجوزت صدقه فهل تأكله أو تتركه وإن كان ألذ الأطعمة فيقول‏:‏ أتركه لا محالة لأني أقول إن كذب فلا يفوتني إلا هذا الطعام والصبر عنه وإن كان شديداً فهو قريب وإن صدق فتفوتني الحياة والموت بالإضافة إلى ألم الصبر عن الطعام وإضاعته شديد‏.‏

فيقال له‏:‏ يا سبحان الله كيف تؤخر صدق الأنبياء كلهم مع ما ظهر لهم من المعجزات وصدق كافة الأولياء والعلماء والحكماء بل جميع أصناف العقلاء - ولست أعني بهم جهال العوام بل ذوي الألباب - عن صدق رجل واحد مجهول لعل له غرضاً فيما يقول فليس في العقلاء إلا من صدق باليوم الآخر وأثبت ثواباً وعقاباً وإن اختلفوا في كيفيته فإن صدقوا فقد أشرفت على عذاب يبقى أبد الآباد وإن كذبوا فلا يفوتك إلا بعض شهوات هذه الدنيا الفانية المكدرة‏.‏

فلا يبقى له توقف إن كان عاقلاً مع هذا الفكر إذ لا نسبة لمدة العمر إلا أبد الآباد بل لو قدرنا الدنيا مملوءة بالذرة وقدرنا طائراً يلتقط كل ألف ألف سنة حبة واحدة منها لفنيت الذرة ولم ينقص أبد الآباد شيئاً فكيف يفتر رأي العاقل في الصبر عن الشهوات مائة سنة مثلاً لأجل سعادة تبقى أبد الآباد ولذلك قال أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخي المعري‏:‏ قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر أو صح قولي فالخسار عليكما لذلك قال علي رضي الله عنه لبعض من قصر عقله عن فهم تحقيق الأمور وكان شاكاً‏:‏ إن صح ما قلت فقد تخلصنا جميعاً وإلا فقد تخلصت وهلكت‏!‏ أي العاقل يسلك طريق الأمن في فإن قلت‏:‏ هذه الأمور جلية ولكنها ليست تنال إلا بالفكر فما بال القلوب هجرت الفكر فيها واستثقلته وما علاج القلوب لردها إلى الفكر لا سيما من آمن بأصل الشرع وتفصيله فاعلم أن المانع أمران‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الفكر النافع هو الفكر في عقاب الآخرة وأهوالها وشدائدها وحسرات العاصين في الحرمان عن النعيم المقيم وهذا فكر لداغ مؤلم للقلب فينفر القلب عنه ويتلذذ بالفكر في أمور الدنيا على سبيل التفرج والاستراحة‏.‏

والثاني‏:‏ أن الفكر شغل في الحال مانع من لذائذ الدنيا وقضاء الشهوات وما من إنسان إلا وله في كل حالة من أحواله ونفس من أنفاسه شهوة قد تسلطت عليه واسترقته فصار عقله مسخراً لشهوته فهو مشغول بتدبير حيلته وصارت لذته في طلب الحيلة فيه أو في مباشرة قضاء الشهوة والفكر يمنعه من ذلك‏.‏

أما علاج هذين المانعين‏:‏ فهو أن يقول لقلبه ما أشد غباوتك في الاحتراز من الفكر في الموت وما بعده تألماً بذكره مع استحقار ألم مواقعته فكيف تصبر على مقاساته إذا وقع وأنت عاجز عن الصبر على تقدير الموت وما بعده ومتألم به وأما الثاني وهو كون الفكر مفوتاً للذات الدنيا فهو أن يتحقق أن فوات لذات الآخرة أشد وأعظم فإنها لا آخر لها ولا كدورة فيها ولذات الدنيا سريعة الدثور وهي مشوبة بالمكدرات فما فيها لذة صافية عن كدر‏.‏

وكيف وفي التوبة عن المعاصي والإقبال على الطاعة تلذذ بمناجاة الله تعالى واستراحة بمعرفته وطاعته وطول الأنس به ولو لم يكن للمطيع جزاء على عمله إلا ما يجده من حلاوة الطاعة وروح الأنس بمناجاة الله

تعالى لكان ذلك كافياً فكيف بما ينضاف إليه من نعيم الآخرة نعم هذه اللذة لا تكون في ابتداء التوبة ولكنها بعد ما يصبر عليها مدة مديدة وقد صار الخير ديدناً كما كان الشر ديدناً فالنفس قابلة - ما عودتها تتعود والخير عادة والشر لجاجة‏.‏

فإذن هذه الأفكار هي المهيجة للخوف لقوة الصبر عن اللذات ومهيج هذه الأفكار وعظ الوعاظ وتنبيهات تقع للقلب بأسباب تتفق لا تدخل في الحصر فيصير الفكر موافقاً للطبع فيميل القلب إليه ويعبر عن السبب الذي أوقع الموافقة بين الطبع والفكر الذي هو سبب الخير بالتوفيق إذ التوفيق هو التأليف بين الإرادة وبين المعنى الذي هو طاعة نافعة في الآخرة وقد روي في حديث طويل‏:‏ أنه قام عمار بن ياسر فقال لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه‏:‏ يا أمير المؤمنين أخبرنا عن الكفر على ماذا بني فقال علي رضي الله عنه‏:‏ بني على أربع دعائم‏:‏ على الجفاء والعمى والغفلة والشك فمن جفا احتقر الحق وجهل بالباطل ومقت العلماء ومن عمي نسي الذكر ومن غفل حاد عن الرشد ومن شك غرته الأماني فأخذته الحسرة والندامة وبدا له من الله ما لم يكن يحتسب‏.‏

فما ذكرناه بيان لبعض آفات الغفلة عن التفكر وهذا القدر في التوبة كاف وإذا كان الصبر ركناً من أركان دوام التوبة فلا بد من بيان الصبر فنذكره في كتاب مفرد إن شاء الله تعالى‏.‏